الفتوحات الإسلامية في
العصر الأموي
شهد العصر الأموي أوسع
حركات الفتح الإسلامي وأكثرها نشاطًا
في التاريخ الإسلامي كله بعد فتوحات
الخلفاء الراشدين، التي شملت العراق
وبلاد فارس كلها، ومصر والشام، ثم
توقفت الفتوحات الإسلامية، أو كادت
تتوقف بسبب الفتن والحروب الأهلية
التي حدثت بين المسلمين
وقد استأنف المسلمون
فتوحاتهم بعد اجتماع شملهم علي معاوية
بن أبى سفيان وتوحدهم تحت رايته في عام
الجماعة سنة 41ه، وحقق الأمويون أعظم
إنجازاتهم علي الإطلاق في ذلك الميدان
العظيم، وامتدت فتوحاتهم إلي مناطق
عديدة في قارات العالم القديم آسيا -
إفريقيا - أوربا ففتحوا في عهد الوليد
بن عبد الملك بلاد ما وراء النهر آسيا
الوسطى وإقليم السند في شبه القارة
الهندية، واستكملوا فتح الشمال
الإفريقي كله من حدود مصر الغربية إلي
المحيط الأطلسي، ثم عبروا مضيق جبل
طارق إلي القارة الأوربية، ليفتحوا
الأندلس، وجنوبي فرنسا، كما استولوا
علي معظم الجزر في شرقي البحر المتوسط
وشرقيه وجنوبيه، ثم واصلوا ضغطهم علي
مدينة القسطنطينية، عاصمة الدولة
البيزنطية، وحاصروها أكثر من مرَّة
التيارات والأحزاب
السياسية والدينية
شغلت الدولة الأموية في
التاريخ الإسلامي إحدى وتسعين سنة 41 -
132ه، وامتدت حدودها من حدود الصين
شرقًا إلي الأندلس غربًا، ومن بحر
قزوين شمالا إلي المحيط الهندي
جنوبًا، وعمل خلفاؤها في جد ومثابرة
وحسن سياسة علي نشر الإسلام في تلك
الرقعة الكبيرة، ونمت الحضارة
الإسلامية ونهضت في عهدهم. وهذه
الأعمال تشهد للأمويين بدورهم البارز
في التاريخ الإسلامي، وتخفف كثيرًا من
النقد الذي وجه إليهم، ومما يزيد المرء
إعجابًا وتقديرًا لإنجازهم أنهم قاموا
بتلك الأعمال الجليلة، وهم يصارعون
أعداء أشداء من تيارات وأحزاب سياسية
ودينية، لم يتركوا فرصة للثورة عليهم
إلا انتهزوها. من تلك الأحزاب من
تذرَّع بالدين يحارب به، ويتَّهم بنى
أمية بالخروج علي الدين وقواعده،
وأنهم مغتصبون للسلطة، كالخوارج
والشيعة. وهناك شخصيات أعلنت التمرد
والثورة علي بنى أمية لأهداف شخصية،
ولتحقيق طموحات ذاتية، والوصول إلي
الحكم بأي ثمن، مثل المختار بن أبى
عبيد الثقفي، وعبد الرحمن بن محمد بن
الأشعث، ويزيد بن المهلب
الخوارج
كان الخوارج من أنصار علي
بن أبى طالب، وشهدوا معه معركتي الجمل
وصفين، ثم انشقوا عليه لما قبل التحكيم
بينه وبين معاوية، فسمَوا الخوارج،
لخروجهم علي إمامهم، ولما بالغوا
وتطرَّفوا في عدائهم له، وعاثوا في
الأرض فسادًا، اضطر إلي مقاتلتهم في
معركة النهروان، ثم عادوا بنى أمية
ودخلوا في صراع طويل معهم. وكانوا في
مبدأ أمرهم فرقة واحدة، يدور خلافهم مع
بقية الأمة حول الخلافة ومَن أحق بها،
ومجمل أمرهم أن الخلافة حق لمن يصلح
لها من المسلمين، وتتوافر فيه شروطها
من العلم والأمانة والشجاعة، وليس من
الضروري أن يكون عربيا فضلا عن أن يكون
قرشيا. ولو أنهم حصروا خلافهم مع غيرهم
في جدل وحوار نظري يقوم علي مقارعة
الحجة بالحجة والدليل بالدليل لما كان
في الأمر شيء ولكن الخطر كل الخطر جاء
من لجوئهم إلي العنف واستخدام السيف في
فرض آرائهم، وقد بدأ مع علي بن أبى طالب
مما جعل خصومهم يواجهون القوة بالقوة،
وتكبَّدت الأمة الإسلامية عشرات
الآلاف من الضحايا من أبنائها نتيجة
هذه الخصومة العنيفة. وظل الخوارج فرقة
واحدة، تتبنَّى أفكارًا ومبادئ واحدة
حتى وفاة يزيد بن معاوية سنة 64ه، ثم بدأ
الشقاق والخلاف يدب بينهم هم أنفسهم،
فانقسموا فرقًا وأحزابًا، حتى وصل
عددهم إلي ثلاثين فرقة، ثم تطور
تفكيرهم بمرور الزمن، وبدءوا يخوضون
في قضايا تدخل في صلب الدين، مثل
مباحثهم في مرتكب الكبيرة هل مؤمن أو
كافر، وغير ذلك من القضايا، وأشهر فرق
الخوارج التي ناصبت الدولة الأموية
العداء وشنت عليها الحرب، هي
الأزارقة
هم أتباع نافع بن الأزرق،
أحد زعماء الخوارج الكبار، وهي تعد أشد
فرق الخوارج تطرفًا في أفكارها
السياسية والدينية، فهي ترى الخروج
علي الخليفة الذي يخالفها في آرائها
وقتاله، وأتباعها يتبرءون ممن لا
يوافقهم علي ذلك، ويَعدُّونهم من
القاعدين، ويكفرون مرتكب الذنوب
الكبيرة ويحكمون بخلوده في النار،
مخالفين في ذلك صريح القرآن الكريم،
حيث يقول الله تعالي: {إن الله لا يغفر
أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
النساء: من 48. ويبيحون دماء مخالفيهم في
الرأي
النجدات
وينسبون إلي نجدة بن عامر،
وهم أقل تطرفًا من الأزارقة؛ لأنهم لا
يقولون بكفر مرتكب الكبائر
البيهسية
وينسبون إلي زعيمهم بيهس،
وهم أقل تطرفًا من الأزارقة، و يرون أن
مخالفيهم في الرأي منافقون، تجرى
عليهم أحكام المنافقين، لكنهم يجيزون
حوارهم، والتزاوج معهم، وميراثهم
الصفرية
أتباع زياد بن الأصفر، وهم
كذلك أقل تطرفًا من الأزارقة،
ومعتدلون في أفكارهم
الشيعة
تعنى كلمة الشيعة: الأهل
والأتباع والأنصار، كما في قوله -
تعالي، في معرض حديثه عن موسى، عليه
السلام -: فاستغاثه الذي من شيعته علي
الذي من عدوه . القصص: من 15
و كل قوم اجتمعوا علي أمر
فهم شيعة، بعضهم لبعض، غير أن هذه
الكلمة أصبحت علمًا علي أنصار علي بن
أبى طالب -رضى الله عنه - وذريته من
بعده، فإذا قيل: إن فلانًا من الشيعة،
عُرف أنه منهم، أو قيل: في مذهب الشيعة
كذا، أي: عندهم
وقد نشأ التشيع بسيطًا في
أول الأمر ثم تطور بمضي الزمن، وأصبح
مذهبًا دينيا وسياسيا، كما كان أتباعه
فرقة واحدة، شأنهم في ذلك شأن الخوارج،
ثم لم يلبثوا أن تفرعوا إلي فرق، مثل
الإمامية الاثنا عشرية، والزيدية
والإسماعيلية. ويخالف رأي الشيعة في
الخلافة جمهور الأمة الإسلامية التي
ترى أن الخلافة أمر من الأمور العامة،
يفوض للأمة أمر البت في شأنها، وتختار
من تراه الأصلح لدينها ودنياها لتولي
منصب الخلافة. أمَّا هم فيرون أن
الإمامة ليست من المصالح العامة التي
تفوض إلي الأمة، بل هي ركن من أركان
الإسلام، لا يجوز للنبي صلي الله عليه
وسلم إغفاله، ولا تفويض الأمة فيه، بل
يجب عليه تعيين الإمام للأمة بعده، وأن
الإمام لابد أن يكون معصومًا من
الكبائر والصغائر، ويزعمون أن النبي
صلي الله عليه وسلم فعل ذلك، وعيَّن
علي بن أبى طالب، وقد تعددت ثوراتهم
المسلحة ضد الدولة الأموية طلبًا
للخلافة
انتشار الإسلام في العصر
الأموي
امتدت الفتوحات الإسلامية
من حدود الصين إلي الأندلس، ومن بحر
قزوين إلي المحيط الهندي، وأدخلت في
الدولة الإسلامية شعوبًا كثيرة،
مختلفة في الديانات والمذاهب واللغات
والأجناس والثقافات والعادات
والتقاليد، ولم تكن تلك الفتوحات غزوا
عسكريا مستغلا للشعوب ناهبًا
لثرواتها، وإنما كان فتحًا دينيا
وثقافيا ولغويا، فانتشر الإسلام في
البلاد المفتوحة بخطى حثيثة، وتغيرت
أوضاعها السياسية والاقتصادية
والاجتماعية
ويمكن القول: إن هذا العالم
الفسيح أصبح عالمًا إسلاميا واحدًا،
فسيادة المسلمين عليه لا تنازع،
والإسلام هو الدين الغالب في سماحة
ورحمة، والحاكم في عدل، ولم تأخذ
المسلمين نشوة النصر والغلبة، التي قد
تحملهم علي الكبر والتعالي وإذلال
الشعوب المغلوبة، بل عاملوهم معاملة
كريمة، وصانوا أرواحهم وأموالهم
وعقائدهم، وحفظوا عهودهم ومواثيقهم
معهم، ووفوا بها في صدق وإخلاص،
وأشركوا أبناءهم في حكم بلادهم
وإدارتها
عوامل انتشار الإسلام
أولا عالمية الإسلام
لا جدال في أن الإسلام دين
عالمي، ورسالته للجنس البشرى كله؛
لقوله تعالي مخاطبًا نبيَّه صلي الله
عليه وسلم: {وما أرسلناك إلا كافة للناس
بشيرًا ونذيرًا. النبأ: 28. وقال تعالي:
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم
جميعًا الأعراف: 158. وقال النبي صلي
الله عليه وسلم: {إن مثلي ومثل الأنبياء
من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه
وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل
الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون:
هلا وضعت هذه اللبنة؛ فأنا اللبنة،
وأنا خاتم النبيين صحيح البخاري
وليس معنى عالمية الإسلام
أن يُنشَر بالقوة وبحد السيف، كما يزعم
أعداء الإسلام، ولكن بالحكمة والموعظة
الحسنة كما أمر النبي صلي الله عليه
وسلم
ثانيًا: التسامح
تعامل المسلمون الفاتحون
مع أبناء الشعوب المفتوحة بتسامح
ورحمة، وقد شهد بذلك غير المسلمين،
فيقول جوستاف لوبون: لم يعرف التاريخ
فاتحًا أرضى من العرب. وليس أدل علي
وجود هذه السياسة المتسامحة من رد أبى
عبيدة بن الجراح الجزية التي أخذها من
أهل حمص إليهم، حين اضطر إلي الانسحاب
من حمص للدفاع عن دمشق، ولما سألوه في
دهشة عن سبب ذلك، قال لهم إنما رددنا
عليكم أموالكم، لأنه بلغنا ما جُمِع
لنا من الجموع - يقصد الروم الذين
تجمَّعوا للهجوم علي دمشق- وإنكم قد
اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنَّ لا
نقدر على ذلك، فرددنا عليكم ما أخذنا
منكم. فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم
أحب إلينا لحاكمنا فيه من الظلم والغشم
-يقصدون الحكم البيزنطي- وردَّكم الله
إلينا سالمين، والله لو كانوا هم ما
ردُّوا علينا شيئًا
ثالثًا: إشراك أبناء البلاد
المفتوحة في إدارة بلادهم
أدرك المسلمون أن سير
الأمور في البلاد المفتوحة سيرًا
حسنًا، وتحقيق مصالح أهلها يكمُن في
الأسلوب الإداري الذي سيتبعونه في
إدارة البلاد، ومن ثم لم يترددوا في
الاحتفاظ بالنظم الإدارية التي وجدوها
في البلاد سواء التي كانت تابعة للدولة
البيزنطية مثل مصر والشام وشمالي،
إفريقيا، أو التي كانت تابعة للفرس،
مثل العراق وبلاد فارس نفسها، ولم
يكتفُ بذلك، بل طوروا من النظم ما
يرونه ضروريا، ليتفق مع دينهم ونظامهم
السياسي والاجتماعي القائم علي أسس من
الشريعة الإسلامية، وما يحقق الصالح
العام للدولة وللأمة
وكان عمر بن الخطاب هو أول
من سنَّ هذه السنة، فاقتبس نظام
الدواوين، الذي يشبه نظام الوزارات في
الدولة الحديثة من النظم الفارسية
والبيزنطية، ولم يجد غضاضة في ذلك. ولم
يقف المسلمون عند حد الاستفادة من
النظم الإدارية التي وجدوها في البلاد
المفتوحة، بل أبقوا أيضًا علي الجهاز
الإداري الذي يسيِّر العمل، واحتفظوا
لأنفسهم بالمناصب العليا كالإمارة،
وقيادة الجيش والقضاء والشرطة. وإزاء
هذه السياسة كان المجال رحبًا أمام
أبناء البلاد المفتوحة الذين لم
يعتنقوا الإسلام للوصول إلي المناصب
العليا في الجهاز الإداري، التي كانوا
محرومين من توليها في ظل الحكومات
السابقة علي الفتح الإسلامي، علي حين
كان الطريق مفتوحًا لمن يسلم منهم
للوصول إلي مناصب الإمارة أو قيادة
الجيوش، مثل طارق بن زياد الذي كان من
أصل بربري، لكنه صار من كبار الفاتحين،
وفي ذلك يقول أحد الباحثين: إن روح
الإسلام الحقَّة هي التي حفَّزت العرب
إلي اتباع سياسة التسامح الديني نحو
المصريين أي أن الأقباط أصبحوا
يتمتعون بحرية تامة في الدين، كما أصبح
لهم نصيب كبير في إدارة بلادهم ولم
يقتصر القبط علي الأعمال الإدارية
الصغيرة، بل شقوا طريقهم إلي أعمال لها
خطورتها، ففي ولاية عبد العزيز بن
مروان علي مصر 65 - 85ه كان هناك كاتبان
قبطيان لإدارة مصر، واحد لمصر العليا -
الصعيد - والآخر لمصر السفلي- الدلتا -
بل أكثر من ذلك فقد تولي ولاية الصعيد
والٍ قبطي اسمه بطرس كما كان حاكم
مريوط قبطيا اسمه تاوناس. ولم يحدث هذا
في مصر وحدها بل كان ذلك في البلاد
المفتوحة كلها، ففي الشام - مقر الدولة
الأموية - بقى أهم الدواوين وأخطرها،
وهو ديوان الخراج - الذي يمثل وزارة
المالية في الوقت الحاضر - في أيدي
المسيحيين من أسرة سرجيوس الرومي
ونتيجة لهذه السياسة شعر
أهل الذمة - اليهود والنصارى - بالأمان
والاطمئنان، فأقبلوا علي اعتناق
الإسلام في حرية تامة ودون إكراه
رابعا: الأوضاع الدينية في
البلاد المفتوحة
أقبل كثير من أبناء البلاد
المفتوحة علي اعتناق الإسلام لبساطته
وملاءمته للفطرة الإنسانية، ولعدم
اقتناعهم بالأديان التي كانت سائدة في
بلادهم، ومعظمها كانت ديانات وضعية
وثنية كالزرادشتية، والبوذية،
والمانوية والمزدكية، حتى اليهودية
والنصرانية دخلها الزيف والتحريف
والتعقيد، وأصبحت كل منهما تستعصي علي
الفهم. يقول أحد الباحثين المسيحيين:
ومن المرجح أن تأثير المسيحية في
السواد الأعظم من شعب مصر كان قليلا في
القرن السابع - عند الفتح الإسلامي لها-
وأن التعليقات النظرية التي استغلها
زعماؤهم في إثارة شعور الكراهية
والمقاومة في وجه الحكومة البيزنطية،
كان يمكن أن يدركها عدد قليل جدا من
الناس، كما أن سرعة انتشار الإسلام قد
تكون راجعة إلي عجز ديانة كالديانة
المسيحية، وعدم صلاحيتها للبقاء، أكثر
من أن تكون راجعة إلي الجهود الظاهرة
التي قام بها الفاتحون لجذب الآهلين
إلي الإسلام
خامسًا: أثر سياسة الدولة
الأموية في انتشار الإسلام
حافظ الأمويون علي روح
التسامح الإسلامي في سياستهم للبلاد
المفتوحة إلي حد كبير، فالتزموا بنصوص
المعاهدات وروحها التي أعطيت لأهالي
تلك البلاد، فلم ينكثوا عهدًا أو
ينقضوا معاهدة، وإذا حدث شيء من هذا
فإن الدولة تسارع بتصحيح الخطأ، ولم
تذكر المصادر التاريخية سوى حدث واحد
من هذا القبيل وقع في العصر الأموي،
حين نقض قتيبة بن مسلم عهده مع أهل
سمرقند، وكان قد دخل مدينتهم بناءً علي
اتفاق معهم علي أن يخرج منها بعد أن
يبنى فيها مسجدًا، لكنه لم يخرج منها
ناقضًا اتفاقه معهم، فشكوا إلي عمر بن
عبد العزيز، فأمر الوالي بأن يحقق في
المسألة بإنصاف، فحكم القاضي المسلم
بإخراج المسلمين من سمرقند، وأن
ينابزوا أهلها علي سواء، فكرهوا
القتال، وأقروا المسلمين علي البقاء
فيها، وأسعدهم هذا المسلك من الحكومة
الإسلامية التي لم تفرق بين المسلم
وغير المسلم في العدل، فأقبلوا علي
اعتناق الإسلام
انتشار الإسلام في الشام
كان معظم سكان الشام عند
الفتح الإسلامي من العرب الذين هاجروا
من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام
بعدة قرون، وأقاموا هناك ممالك
وإمارات، وإلي جانب هؤلاء كانت هناك
أقليات من اليهود والأرمن المسيحيين،
والروم، والأكراد. وقد وقف عرب الشام
في بداية الفتوحات الإسلامية في عهد
الراشدين مع الروم ضد أبناء عمومتهم
العرب الفاتحين، ظنا منهم أنهم جاءوا
إلي الشام لمزاحمتهم فيه، وأخذ أرضهم
وأموالهم، لكنهم حين فطنوا إلي أهداف
المسلمين الرفيعة ورسالتهم السامية،
القائمة علي العدل والحرية والمساواة،
اطمأنت نفوسهم إلي الإسلام، وأَنسوا
إلي جانب المسلمين، وبخاصة بعد انتهاء
المعارك ووضوح نتائجها، وزوال سلطان
الروم عنهم. وقد أدَّى ذلك إلي مشاركة
عرب الشام عربَ الجزيرة في عقيدتهم
ومثلهم وتطلعهم للحياة، وبخاصة أنهم
وجدوا أبواب العمل في الدولة
الإسلامية مفتوحة أمامهم، فمن أسلم
أصبح منهم، وربما تدفعه مواهبه إلي
الصفوف الأولي مع كبار القادة العظام،
مثل حسان بن النعمان الذي كان ينتمي
إلي الأسرة الحاكمة في الشام عند الفتح
الإسلامي، ومن بقى علي مسيحيته شارك في
ميادين العمل الإداري والمالي
وكان نشر الإسلام في الشام
موضع عناية المسلمين وهدفهم، منذ
الخطوات الأولي للفتح، فقد أرسل يزيد
بن أبى سفيان إلي عمر بن الخطاب يطلب
معلمين من الصحابة، يعلمون الناس
شرائع الإسلام ويقرئونهم القرآن، فبعث
إليه عددًا من كبار الصحابة، منهم:
عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، ومعاذ
بن جبل، رضى الله عنهم، وبدأت القبائل
العربية التي كانت تقطن الشام قبل
الفتح الإسلامي تقبل علي الإسلام عن
اختيار وفي حرية تامة، فأسلمت أغلبية
قبيلة الغساسنة كبرى القبائل العربية
في الشام، وكانت لها دولة تبسط سلطانها
علي جنوبي سوريا، وشرقي الأردن، وكذا
قبائل لخم وجذام وكلب
ولم يقتصر الدخول في
الإسلام علي القبائل العربية بل اعتنق
الإسلامَ كثيرٌ من المسيحيين غير
العرب؛ كالأرمن والروم، لما فيه من
بساطة وسماحة، بالقياس إلي المسيحية
التي تحولت إلي طلاسم وألغاز وجدل عقيم.
ويذكر توماس آرنولد أن انتشار الإسلام
بين نصارى الكنائس الشرقية كان نتيجة
شعور بالاستياء من السفسطة المذهبية
التي جلبتها الروح الهللينية إلي
اللاهو ت المسيحي، لأنها أحالت تعاليم
المسيح - عليه السلام - البسيطة السامية
إلي عقيدة محفوفة بمذاهب عويصة، مليئة
بالشكوك والشبهات، فأدى ذلك إلي خلق
شعور من اليأس، بل زعزع أصول العقيدة
الدينية ذاتها، فلما أهلَّت آخر الأمر
أنباء الوحي الجديد فجأة من الصحراء،
لم تعد تلك المسيحية الشرقية التي
اختلطت بالغش والزيف، وتمزَّقت بفعل
الانقسامات الداخلية، قادرة علي
مقاومة إغراء الدين الجديد - الإسلام -
الذي بدَّد بضربة واحدة من ضارباته كل
الشكوك التافهة، وقدَّم مزايا مادية
جديدة إلي جانب مبادئه الواضحة
البسيطة التي لا تقبل الجدل، وحينئذٍ
ترك الشرق المسيح، وارتمى في أحضان نبي
بلاد العرب. وكان من الطبيعي أن يكون
حجم انتشار الإسلام في الشام كبيرًا،
لقربه من الحجاز منزل الوحي، ووفود
كثير من الصحابة إليه في الفتوحات
وبعدها، وإقامتهم فيه، وإقامة كثير من
أفراد جيوش الفتح الوافدة من الجزيرة
العربية في الشام
ولما قامت الدولة الأموية
سنة 41ه واتخذت من دمشق عاصمة لها، اتسع
نطاق انتشار الإسلام بين القبائل
العربية، وأصبح الشام قطرًا عربيا
إسلاميا خالصًا، يعيش فيه بعض
الأقليات المسيحية واليهودية في حرية
وأمان
انتشار الإسلام في مصر
فُتحت مصر في عهد عمر بن
الخطاب، ومنذ الأيام الأولي للفتح
أقبل بعض المسيحيين علي الدخول في
الإسلام بحرية تامة وحتى قبل تمام
الفتح، فقد كتب يوحنا النقيوسي - وهو
رجل دين مسيحي كان قريبًا من حوادث
الفتح أن بعض المصريين تركوا الدين
المسيحي وأسلموا، وصحبوا جيوش العرب
أثناء الفتح، كان منهم يوحنا أحد رهبان
دير سيناء. واستمرت حركة الدخول في
الإسلام في زيادة مطردة، فدخل علي عهد
الخليفة هشام بن عبد الملك أربعة
وعشرون ألفًا منهم الإسلام دفعة واحدة
سنة 108ه ولم يكن دخول الإسلام مقصورًا
علي طبقة بعينها، بل دخل فيه ناس من كل
الطبقات، كما اعتنقه كثير من الروم
الذين بقوا في مصر بعد الفتح الإسلامي.
وباستمرار دخول المسيحيين في مصر في
الإسلام أصبح أغلبية السكان مسلمين،
وتعلموا اللغة العربية، وأصبحت مصر
بلدًا عربيا إسلاميا، وبقى بعض
الأقباط علي دينهم حتى الآن، وهذا دليل
سماحة الإسلام، وآية علي أن من اعتنق
الإسلام منهم اعتنقه عن رضى واقتناع
ودون إكراه، فلو أكره الفاتحون
المسلمون الأقباط علي ترك دينهم
والدخول في الإسلام؛ لما بقى مسيحي
واحد في مصر. وكان دور المسلمين في جذب
المسيحيين وغيرهم دور الداعي إلي دينه
بالحكمة والموعظة الحسنة، والقدوة
الطيبة، بالإضافة إلي جو الحرية
وسريان روح الرحمة والتسامح الذي
أشاعه الخلفاء والحكام والأمراء، ولم
يعد المسلمون أنفسهم طبقة متميزة علي
أهل البلاد، وإنما اختلطوا بهم
وتعايشوا معهم وصاهروهم، وعاملوهم
بتقدير واحترام، خاصة أن النبي أوصى
المسلمين خيرًا بأهل مصر حين
يفتحونها، فإن لهم ذمة ورحمًا، فهاجر
أم إسماعيل عليه السلام منهم، وكذلك
مارية القبطية التي تزوجها النبي صلي
الله عليه وسلم وأنجب منها إبراهيم
انتشار الإسلام في شمالي
إفريقيا
تشمل منطقة شمالي إفريقيا
المنطقة التي تمتد من حدود مصر العربية
حتى شاطئ المحيط الأطلنطي، وهي من أكثر
المناطق التي أرهقت المسلمين في
فتحها، الذي استغرق نحو سبعين سنة،
وذلك بسبب المقاومة العنيدة التي
لقيها المسلمون من سكان البلاد،
ومعظمهم من البربر الذين يعتزون
بحريتهم وكرامتهم. وكانت مقاومتهم
الشديدة للفتح ترجع إلي جهلهم بطبيعة
الإسلام وأهدافه ومبادئه، وظنهم أن
الفاتحين كغيرهم من الغزاة، جاءوا
لاستغلال بلادهم والاستيلاء علي
خيراتها، فلما فهموا الإسلام وما
يحمله من عزة وكرامة، واحتكوا
بالفاتحين المسلمين وسماحتهم ورحمتهم
أقبلوا علي الإسلام بحماس لا نظير له،
وحملوا رايته، وجاهدوا في سبيله،
وشاركوا في فتوحاته، فكان لهم في فتح
الأندلس بلاءٌ حسن. وعلي الرغم من طول
أمد فتح شمالي إفريقيا؛ بسبب المقاومة
العنيدة التي أبداها السكان فإن
استجابتهم للإسلام واعتناقهم له كان
أسرع وأوسع انتشارًا مما حدث في بلاد
المشرق الأسبق فتحًا مثل العراق
والشام ومصر وقد بدأ السكان يقبلون علي
الإسلام منذ فتح عمرو بن العاص برقة في
عهد عمر بن الخطاب، وظل هؤلاء متمسكين
بإسلامهم علي الرغم من توقف الفتوحات
فترة طويلة؛ بسبب الفتن الداخلية في
الدولة، بدليل وجود كثير من أهل البلاد
في جيش عقبة بن نافع، عندما أسند إليه
معاوية قيادة جيش الفتح في شمالي
إفريقيا، كما أسلم علي يدي عقبة في تلك
الفترة أعداد كبيرة. ثم خطا الإسلام في
المغرب خطوات واسعة، وسعى سعياً
حثيثًا في عهد أبى المهاجر دينار؛ لحسن
سياسته التي جذبت ملك البربر كسيلة إلي
الإسلام، وأسلم بإسلامه أعداد هائلة،
وكان أبو المهاجر يبنى مسجدًا في كل
مدينة يفتحها، ويعمل علي امتزاج العرب
الفاتحين بأهالي البلاد؛ ليكون لذلك
أثره في تعليمهم الدين واللغة العربية.
ثم كان ظهور حسان بن النعمان ومن بعده
موسى بن نصير في شماليّ إفريقيا من
عوامل التمكين للإسلام في البلاد؛
فاستطاع حسان أن يقضى علي الوجود
البيزنطي قضاءً تاما، ثم علي مقاومة
الكاهنة التي تزعمت البلاد بعد مقتل
كسيلة. والعجيب أن هذه المرأة العنيدة
وهي تخوض معركتها الأخيرة مع حسان،
أوصت أبناءها بالانضمام إليه واعتناق
الإسلام إن هي هزمت في الحرب، فلما حدث
ذلك أسلم أبناؤها، وعيَّنهم حسَّان
أمراء علي قبائلهم، وأسلم بإسلامهم
اثنا عشر ألف رجل دفعة واحدة. وأمَّا
موسى بن نصير فقد ركز اهتمامه علي نشر
الإسلام بين السكان، وكان يأمر جنده
العرب بتعليم البربر المسلمين في جيشه
القرآن الكريم، وتفقيههم في الدين،
كما ترك بين قبائل المصامدة سبعة عشر
رجلا من العرب ليقوموا بالغرض نفسه.
وكان لعمر بن عبد العزيز أثر كبير في
نشر الإسلام بالمغرب، فقد أرسل عشرة
رجال من الصالحين التابعين إلي هناك،
ليعلموا الناس الدين، فتوافد عليهم
الناس من أنحاء البلاد كلها، ليتلقوا
عنهم أمور دينهم
ومن المعروف أن المسيحية قد
دخلت شمالي إفريقيا منذ القرون الأولي
لميلاد السيد المسيح، عليه السلام،
وبخاصة في منطقة الساحل المطلة علي
البحر المتوسط في حين بقيت المناطق
الداخلية البعيدة عن الساحل علي
وثنيتها
انتشار الإسلام في الأندلس
لمَّا فتح المسلمون
الأندلس في أواخر القرن الهجري الأول 92
- 95ه كانت ديانة معظم السكان هي
المسيحية الكاثوليكية، بالإضافة إلي
جالية يهو دية كبيرة وبعض الوثنيين، ثم
بدأت أعداد كبيرة منهم تعتنق الإسلام،
يأتي في مقدمتهم طبقة الرقيق التي وجدت
في الإسلام نجاتها وخلاصها من الظلم
والاضطهاد الذي كانت تعانيه تحت حكم
القوط
ولم تكن طبقة الرقيق وحدها
هي التي أسرعت إلي اعتناق الإسلام، بل
اعتنقه كثير من الوثنيين وأشراف
المسيحيين، بالإضافة إلي أعداد كبيرة
من الطبقات الوسطى والدنيا، بل إن بعض
القساوسة اعتنق الإسلام، مثل تيود
سكلوس الذي كان رئيس أساقفة إشبيلية
وقد حدث ذلك كله في السنوات
الأولي، التي أعقبت الفتح الإسلامي
مباشرة، دون إكراه من المسلمين لإجبار
أهل الأندلس وحملهم علي الإسلام حملا،
بل أقبلوا عليه عن رضى واقتناع تام،
ساعد علي ذلك بساطة الإسلام وبعده عن
التعقيدات الكهنوتية التي حفلت بها
ديانتهم، واختلاط المسلمين الفاتحين
بأهل البلاد ومصاهرتهم، و قد فعل ذلك
أعداد كبيرة من المسلمين، حتى الأمراء
منهم، فقد تزوج عبد العزيز بن موسى بن
نصير بابنة الملك القوطى رذريق، وحذا
حذوه كثير من القادة والجنود،ونتج عن
هذه المصاهرات جيل جديد في الأندلس
عُرف بالمولدين، وهم الذين ولدوا من
آباء عرب وأمهات أندلسيات، وهؤلاء
نشئوا مسلمين بطبيعة الحال، وسرعان ما
تزايد عددهم، وأصبحوا يشكلون غالبية
السكان، واحتلوا مكانة كبيرة في
المجتمع وكان لهم دورهم في تسيير أمور
الدولة الإسلامية
و قد أصبح هذا الجزء الذي
يقع في جنوبي غربي أوربا بلدًا عربيا
مسلمًا في حرية تامة ودون
تعصب أو إكراه، ولم يستغل الفاتحون
المسلمون انتصارهم علي القوط في
استئصال المسيحية من البلاد كما فعل
فردينان
و إيزابيلا في استئصال المسلمين بعد
ذلك بثمانية قرون